والضلع الثالث -عدا إبادة الملايين من الشعب الأصلي ومحاربة الحكومة الأم على أساس انفصالي استعماري- هو أبشع الأضلاع التي شكلت الوجود القومي الأمريكي، وهو اصطياد البشر واستعبادهم أرقاء لمجرد أن الله خلقهم بلون آخر!!
ولا أدري لماذا فات المثقفين الستين الإشادة بالقيم الأمريكية في تحرير العبيد، مع أن هذه الدعوى تشبه دعوى القيم الكونية والحرب العادلة، في أن كلاً منهما يبرر تبريراً متأخراً لواقع مؤلم طويل، لا يمكن تبريره إلا إذا أمكن حجب الشمس براحة اليدين!!
إن عبارة أن الناس جميعاً خلقوا سواسية، التي صدر بها
جيفرسون بيان إعلان الاستقلال،لم تكن في سياق تأسيس أو اكتشاف قيم كونية، إنما كانت ذريعة احتجاجية لمساواة الرجل الأبيض في المستعمرات الأمريكية بالرجل الأبيض في البلد الأم، ولم يدخل فيها أبداً الملونون ولا النساء ولا اليهود، فقد احتاج الأمريكيون إلى قرابة قرنين لكي يصدر قانون الحقوق المدنية وإلغاء التمييز في عهد
جونسون.
وعندما كان المطالبون بإلغاء التمييز العنصري يسعون للحصول على هذا القانون - الذي هو نظري بطبيعة الحال بشهادة الأحداث اللاحقة والمستمرة- كانوا يسعون إلى إلغاء قوانين عنصرية سارية المفعول، يدعمها ركام نفسي هائل، وعلى سبيل التمثيل العاجل نذكر دستور ولاية
ميسيسبي:
(الفصل الثامن، في التربية والتعليم، الفقرة (207):
"يراعى في هذا الحقل أن يفصل أطفال البيض عن أطفال الزنوج؛ فتكون لكل فريق مدارسه الخاصة".
الفصل العاشر، في الإصلاحيات والسجون، الفقرة (225):
"للمجلس التشريعي أن يهيئ الأسباب المؤدية إلى فصل المساجين البيض عن المساجين السود بقدر الطاقة والإمكان"
الفصل الرابع عشر، أحكام عامة، الفقرة (263):
"إن زواج شخص أبيض من شخص زنجي أو خلاسي أو من شخص ثُمن الدم الذي في عروقه دم زنجي يعتبر غير شرعي وباطلاً"
ولعل أعجب ما في قوانين ولاية
ميسيسبي النص التالي:
"كل من يطبع -أو ينشر أو يوزع- منشورات مطبوعة، أو مضروبة على الآلة الكاتبة، أو مخطوطة باليد، تحض الجمهور على إقرار المساواة الاجتماعية، والتزاوج بين البيض والسود، أو تقدم إليه حججاً واقتراحات في هذا السبيل، يعتبر عملُه قباحةً يعاقب عليها القانون، ويحكم عليه بغرامة لا تتجاوز خمسمائة دولار، أو بالسجن مدة لا تتجاوز ستة أشهر، أو بالعقوبتين معاً".
وفي وثيقة قدمت في شهر شباط (1947م) إلى
الأمم المتحدة تحت عنوان (نداء إلى العالم) "نصت (
الجمعية الوطنية لترقية الشعب الملون) على أن تشريعات مماثلة لتشريعات ولاية
ميسيسبي تطبق في
فريجينيا، و
كارولينا الشمالية، و
كارولينا الجنوبية، و
جورجيا، و
الأباما، و
فلوريدا، و
لويزيانا، و
آركانساس، و
أوكلاهوما، و
تكساس،. ومثل تلك التشريعات -ولكنها أقل قسوة- تطبق في
ديلاوار، و
فرجينيا الغربية، و
كنتاكي، و
تنيسي، و
ميزوري....
وهناك ثماني ولايات شمالية تحرم التزاوج بين البيض والسود وهي
كاليفورنيا، و
كولورادو، و
إيداهو، و
انديانا، و
نبراسكا، و
نيفادا، و
أوريغون، و
أوته..." ويتابع النداء بسط المظالم التي يعانيها الملونون في
الولايات المتحدة فيقول:
"وفي عشرين ولاية من ولايات البلاد يفصل ما بين الطلبة البيض والطلبة السود في المدارس فصلاًُ إلزامياً، أما ولاية
فلوريدا فتقضي قوانينها بأن تخزن الكتب المدرسية الخاصة بالطلاب الزنوج بمعزل عن الكتب الخاصة بالطلاب البيض".
"وفي أربع عشرة ولاية من ولايات البلاد يفرض القانون عزل ركاب القطر الحديدية البيض عن ركابها السود...؛ في حين يفرض القانون إقامة غرف مستقلة للبيض والسود في ثماني ولايات.
أما في سيارات الأتوبيس فالعزل مطلوب في إحدى عشرة ولاية...".
"وثمة قوانين تقضي بالفصل ما بين المرضى البيض والمرضى السود في المستشفيات، وفي إحدى عشرة ولاية يفصل ما بين المصابين بالأمراض العقلية على أساس اللون والعرق أيضاً..." " والفصل مطلوب بين البيض والسود في السجون والمؤسسات الإصلاحية في إحدى عشرة ولاية من ولايات الاتحاد"
''وثمة قوانين تقضي بعزل البيض عن السود في شؤون كثيرة لا مجال لتعدادها هاهنا، ولكن إيراد بعض الأمثلة قمين بأن يوضح مدى الظلم اللاحق بالعناصر الملونة بقوة القانون.
ففي
أوكلاهوما يفرض القانون إقامة غرف تلفونية مستقلة للزنوج، وفي
تكساس يحظر على المصارعين البيض أن ينازلوا المصارعين السود، وفي
كارولينا الجنوبية لا يسمح للعمال الزنوج والبيض بأن يقيموا على صعيد واحد في مصانع النسيج القطني، ولا يجوز للزنوج أن يدخلوا أو يخرجوا من الأبواب عينها التي يدخل منها البيض ويخرجون
.
قبل أحداث (11 سبتمبر 2001م) كان
لأمريكا سبتمبر آخر له أحداث تاريخية سنة (1957م) حين أمر الرئيس
ايزنهاور الفرقة المشئومة (101) باحتلال ولاية
أركنساس، وإلغاء جيشها المحلي البالغ (10.000)، وأعلن للشعب أنه اتخذ هذه الإجراءات لرفع وصمة العار التي كشفت للعالم عامة - والعالم الشيوعي خاصة - أن حقوق الإنسان في
أمريكا مهدرة؛ حين أصر حاكم الولاية على رفض دخول السود مدارس البيض، وتمرد على حكم المحكمة الاتحادية متذرعاً بأن قرار الاختلاط سيؤدي إلى إشعال الفتنة وإراقة الدماء في الولاية، وقد احتاجت الولاية إلى وضع فترة انتقالية مدتها خمس سنوات ليبدأ قرار الاختلاط في روضة الأطفال سنة 1963م.
وفي عهد الرئيس
بوش (الأب) حدثت واقعة مماثلة لكن في
كاليفورنيا كان شرارتها ما وقع للبائس
رودني كنغ، حيث اعترف
بوش بنفسه بفظاعة ما حدث له حين شاهده مسجلاً في فلم، واجتاحت
لوس أنجلوس موجة من الشغب لم تشهد
أمريكا لها نظير منذ الستينات، وتكررت المآسي في عهد
كلنتون في
سنسناتي و
نيويورك بما تغني إستفاضته عن ذكره.
كل حادثة تقع تثير تاريخاً طويلاً من العنصرية المتأصلة التي تدل على أن القيم الأخلاقية شعار ما أسرع ما يُنسى؛ لأن أساس تلك القيم ليس الإيمان الحق بالله تعالى، ومن هنا نقارن بالحال في الإسلام:
في أكبر حشد عرفه التاريخ العربي القديم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع التي حضرها ملوك العرب وزعماء قبائلها، وكان الجمع كله حريصاً على رؤية الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا سيما ملوك
اليمن الذين أسلموا وقدموا من بعيد، وكانت دهشتهم عظيمة حين رأوه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأول مرة - لقد رأوا وجه نبي لا وجه ملك ولا هيئته - وكان مردفاً خلفه على راحلته مولاه الفتى الأسود
أسامة بن زيد، وهو أمر يستنكف عنه أي سيد عربي -ولو كان الراكب غير عبد- حتى أن أحد الملوك
وائل بن حجر رفض قبل ذلك بسنة أن يردف
معاوية بن أبي سفيان الذي أصبح خليفة فيما بعد.
هناك خطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعظم خطبة عرفها التاريخ عن الحقوق بين الناس تعظيماً وتوكيداً وتفصيلاً.
ثم أعادها بنحوها اليوم الثاني "العيد"، وفي اليوم الثالث كان مما جاء فيها:
{
أيها الناس! ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى } رواية الإمام
أحمد في
المسند
وكان لملك
اليمن الشهير
ذي يزن حلة فاخرة اشتراها أحد زعماء قريش
-قبل إسلامه- وأهداها إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبى أن يأخذها إلا بحقها، فلما اشتراها أهداها لمولاه
أسامة بن زيد، وكانت دهشة العرب بالغة حين رأوا حلة
ذي يزن يلبسها مولى، وانطلق البائع يعلم الكبراء بهذا الأمر العجيب
، وتحدثت الروايات أن ملوك
اليمن أعتقوا آلاف العبيد في ذلك الموسم إيماناً بالله واقتداءً برسول الله، وهكذا نقل الإسلام العرب وغيرهم نقلة هائلة في عالم القيم وذابت الفروق كلها بدون ضجة، فأصبح الذين كانوا عبيداً بالأمس القريب ولاة وعلماء وقادة لهم من الشأن والشرف ما ينافسهم عليه الخلفاء وأبناؤهم، ولو أراد مؤلف أن يجمع ذلك لاحتاج إلى مجلدات عدة.
قبل الإسلام كان قانون الغاب هو السائد بين الناس، وبمقتضاه يكون الكف عن العدوان ضعفاً يعاب فاعله، وقد هجا شاعر قبيلة فقال:
قُبيّلة لا يخفرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
لكن القرآن الذي تربى عليه أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علّمهم أن القوة في الثبات على الحق ((
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ )) [الاحقاف:35]
وفي التحكم في النوازع قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {
ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} متفق عليه.
وهكذا أصبح العدل والإحسان والانتصار للمظلوم هي الأسس التي يتركب منها معيار الحكم على المجتمعات.
لقد هاجرت طائفة من المسلمين الأوائل إلى
الحبشة هرباً من اضطهاد المشركين فلما عادوا -بعد غياب طويل- سألهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحدثوه بأعجب ما رأوا في تلك البلاد فقالوا:
{
يا رسول الله! بينما نحن جلوس مرت علينا عجوز من عجائزهم تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم، فجعل إحدى يديه بين كتفيها ثم دفعها على ركبتها، فانكسرت قلتها، فلما ارتفعت (قامت) التفتت إليه ثم قالت: ستعلم ياغُدَر إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون -فسوف تعلم أمري وأمرك عنده غداً، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقتْ ثم صدقت! كيف يقدّس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم}.